قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف : والحاصل : أنَّ الإشارة بـ " هو " مختصة بأهل الاستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة، فلانطباق بحر الأحدية عليهم، وانكشاف الوجود الحقيقي لديهم، فقدوا مَن يشار إليه إلاّ هو، لأنّ المُشار إليه لمّا كان واحداً كانت الإشارة مطلقة لا تكون إلاّ إليه، لفقد ما سواه في شعورهم، لفنائهم عن الرسوم البشرية بالكلية، وغيبتهم عن وجودهم، وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية، وذلك غاية في التوحيد والإعظام. منحنا اللهُ ذلك على الدوام، وجعلنا من أهله، ببركة نبيه عليه الصلاة والسلام. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
٣٧٣
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٧٠
ثم ذكر المتعوَّذ منه فقال :﴿من شرِّ ما خَلَقَ﴾ من الثقلين وغيرهم، كائناً ما كان، وهذا كما ترى شامل لجميع الشرور الجمادية، والحيوانية، والسماوية، كالصواعق وغيرها. وإضافة الشر إليه ـ أي : إلى كل ما خلق ـ لاختصاصه بعالَم الخلق، المؤسس على امتزاج المراد المتباينة، وتفاصيل كيفياتها المتضادة المستتبعة للكون والفساد في عالَم الحكمة، وأمّا عالَم الأمر فهو منزّه عن العلل والأسباب، والمراد به : كن فيكون.
وقوله تعالى :﴿ومن شر غَاسِقٍ إِذا وَقَبَ﴾ تخصيص لبعض الشرور بالذكر، بعد اندراجه فيما قبله، لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه، لكثرة وقوعه، أي : ومن شر الليل إذا أظلم واشتد ظلامه، كقوله تعالى :﴿إِلَىا غَسَقِ الْلَّيْلِ﴾ [الإسراء : ٧٨]. وأصل الغسق : الامتلاء. يقال : غسقت عينيه إذا امتلأت دمعاً، وغَسَقُ الليل : انضباب ظلامه. وقوله :﴿إذا وقب﴾ أي : دخل ظلامه، وإنما تعوَّذ من الليل لأنه صاحب العجائب، وقيل : الغاسق : القمر، ووقوبه : دخوله في الكسوف واسوداده، لِما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أخذ رسولُ الله ﷺ بيدي، وقال :" تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " وقيل : وقوب القمر : محاقه في آخر الشهر، والمنجِّمون يعدونه نحساً، ولذلك لا تستعمل السحرةُ السحرَ المُورث للمرض إلاَّ في ذلك الوقت، قيل : وهو
٣٧٥
المناسب لسبب النزول. وقيل : الغاسق : الثريا، ووقوبها : سقوطها، لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين. وقيل : هو كل شر يعتري الإنسان، ووقوبه هجومه، فيدخل فيه الذكَر عند الشهوة المحرمة وغيره.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٧٥


الصفحة التالية
Icon