ثم بَيّن الموسوِس بقوله :﴿مِن الجِنة﴾ أي : الجن ﴿والناس﴾ ووسواس النار أعظم ؛ لأنَّ وسواس الجن يذهب بالتعوُّذ، بخلاف وسوسة الناس، والمراد بوسوسة الناس : ما يُدخلون عليك من الشُبه في الدين، وخوض في الباطن، أو سوء اعتقاد في الناس، أو غير ذلك.
قال ابن جزي : فإن قلت : لِمَ ختم القرآن بالمعوذتين، وما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه، الأول : قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لمَّا كان القرأنُ من أعظم نِعم الله على عباده، والنعمة مظنة الحسد، ختم بما يُطفىء الحسد، من الاستعاذة بالله. الثاني : يَظهر لي أنَّ المعوذتين ختم بهما لأنّ رسول الله ﷺ قال فيهما :" أنزلت علي آيات لم يُر مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب :" لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين
٣٧٨
لم يرَ مثلهما، للجمع بين حسن الافتتاح والاختتام. ألا ترى أن الخُطب والرسائل والقصائد، وغير ذلك من أنواع الكلام، يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها.
والوجه الثالث : أنه لمّا أمر القارىء أن يفتح قراءته بالتعوُّذ من الشيطان الرجيم، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، فيكون القارىء محفوظاً بحفظ الله، الذي استعاذ به مِن أول أمره إلى آخره. هـ.
الإشارة : لا يُنجي من الوسوسة بالكلية إلاّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي، وتعمير القلب بأنوار التجليات الملكوتية والأسرار الجبروتيه، حتى يمتلىء القلب بالله فحينئذ تنقلب وسوسته في أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات الأقدس، كما قال الشاعر :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٧٧
إن كان للناس وسواس يوسوسهم
فأنت والله وسواسي وخناسي