" صفحة رقم ١١١ "
في الدنيا من اللغو واللجاج، وان يعود إلى ) مفازا ( بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون في للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة ) مفازا ). ولم يؤخر ) وكأسا دهاقا ( ولم يعقب بجملة ) لا يسمعون فيها لغوا ( الخ.
ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام وخاصة في إعجاز القرآن، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها وما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة أو مغصوبة، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية، مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة ) أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ( ثم قوله ) أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ( فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلب مقتضه ويأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول : التنبيه للاهتمام بالخبر، ولكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعا، فالأولون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأن الله يقول قد عرفنا دخائلكم، وثاني الفريقين وهم المؤمنون نبهوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم أيضا عدو لكم لأنهم حزب الشيطان والشيطان عدو الله وعدو الله عدو لكم واجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق، وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب الله فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم.
ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية فإن بلغاءهم كان تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطن لها ما لم يجد من قدرته قبلا بمثله. وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه


الصفحة التالية
Icon