" صفحة رقم ١١٣ "
وتصدى للجواب، والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل، ولأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها غيره مقدم على مراعاة خفة لفظه.
فقد اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد : وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه.
وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلي فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة في المقدمة السادسة وهو مما فسر به حديث : أنزل القرآن على سبعة أحرف، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ).
ومما أعده في هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها مثل إيثار كلمة حرد في قوله تعالى ) وغدوا على حرد قادرين ( إذ كان جميع معاني الحرد صالحا للإرادة في ذلك الغرض، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن في الكلام، فإن اقتضى الحال تصرفا في معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين وهو كثير في القرآن مثل قوله تعالى ) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ( فجاء فعل أتوا مضمنا معنى مروا فعدي بحرف على ؛ لأن الإتيان تعدى إلى اسم القرية والمقصود منه الاعتبار بمآل أهلها، فإنه يقال أتى أرض بني فلان ومر على حي كذا. وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ بل هي معدودة من دقائقه ونفائسه التي تقل نظائرها في كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها.
وأما الجهة الثانية وهى ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام البليغ وهذه جهة مغفولة من علم البلاغة، فاعلم أن أدب العرب نوعان شعر ونثر، والنثر


الصفحة التالية
Icon