" صفحة رقم ١١٧ "
وقال شمس الدين محمود الأصفهاني في تفسيره نقلا عن الفخر الرازي أنه قال إن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه هو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك.
إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدي بها تلك التراكيب.
فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، وان لم يكنه عنه، مثاله قوله تعالى ) هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ( فإن الوقف على قوله ) موسى ( يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده ) إذ ناداه ربه ( الخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة موسى من قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله ) طوى، طغى، تزكى ( الخ.
وقد بينت عند تفسير قوله تعالى ) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( أنك إن وقفت على كلمة ) ريب ( كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنه الكتاب فكانت جملة ) فيه هدى للمتقين ( ابتداء كلام وكان مفاد حرف في استنزال طائر المعاندين أي ان لم يكن كله هدى فإن فيه هدى. وإن وصلت ) فيه ( كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى.
ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه، ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى ) إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلبا كما تجنبا لتعدد صيغة المثنى.
ومن ذلك قوله تعالى ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ( فروعي معنى ما الموصولة مرة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو خالصة، وروعي لفظ ما الموصولة فأتي بمحرم مذكرا مفردا.