" صفحة رقم ١٢٨ "
الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله :( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( وقوله :( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ).
ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله ) لتنذر من كان حيا ( وقوله ) يخرجهم من الظلمات إلى النور ( وقال ) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( وقال ) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ).
وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في الموافقات : إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن. وقد بينت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة. وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله ( ﷺ ) في الحديث الصحيح ما من الأنبياء نبي إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه : الأولى أن قوله ما مثله آمن عليه البشر اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة. ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا، الثانية أن قوله وإنما كان الذي أوتيت وحيا اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون


الصفحة التالية
Icon