" صفحة رقم ١٥٤ "
وتنزل صاحبها إلى دَركةٍ أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، وذلك بما تضمنه قوله :( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( كما أجملناه قريباً، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.
ولما لُقِّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جُدْعان :
أَأَذْكُرُ حاجتي أَم قَدْ كفاني
حَيَاؤُكَ إِنَّ شيمتَك الحَياء
إذا أَثنى عليك المرءُ يوماً
كفاه عن تَعَرُّضِه الثَّناءُ
فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يُلقِّبُون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذاً من حديث أبي هريرة عن النبيء ( ﷺ ) ( كلُّ أَمْرٍ ذِي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمدُ لله أو بالحمد فهو أقطع ). وقد لُقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزَّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأَفهام وأدعى لوعيها.
و ( الحمد ) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فِعْلاً كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنساً للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقاً وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقاً ولو بَشرَ، ونسبا إلى ابن القطاع وغرَّه في ذلك ما رود في الحديث وهو قوله ( ﷺ ) ( من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار ) وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلماً في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدَعْ، فسمَّى ذكرهم بالشر ثناء


الصفحة التالية
Icon