" صفحة رقم ١٩٣ "
دون إعادة، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في ( شرح مشكل الحماسة ) عند قول الأحوص :
فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍ
تُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ
محالٌ أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزوللِ لما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ، ومثله قول الله تعالى :( هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ( وقد كان أبو علي ( يعني الفارسي ) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا هـ.
قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار ) أغويناهم ( بدلاً من ) أغوينا ( وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً. وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله ( ﷺ ) ( كما صليتَ على إبراهيم )، فيقول السائلون : إهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى :( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ( ( الممتحنة : ٦ )، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً.
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه، والفعل كسمع ونصر وضرب. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله :( الذين أنعمت عليهم ( النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ، والرُّوحانيَّ والجثماني، ويشمل النعم الأخروية.