" صفحة رقم ٢٥٢ "
تجعلها تأكيداً وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازاً على الأول وإما وجوباً على الثاني، وقد فرضوا في إعرابها وجوهاً أُخر لا نكثر بها لضعفها، وقد جوز في ( الكشاف ) جعْل جملة ) سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( اعتراضاً لجملة ) لا يؤمنون ( وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد، إذ ليس محل الإخبار هو ) لا يؤمنون ( إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم، وعذراً للنبيء ( ﷺ ) في الحرص على إيمانهم، وتسجيلاً بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل ) لا يؤمنون ( خبراً إلا أن المقصود من الكلام هو الأوْلى بالإخبار، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون، فقد عُلم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل، وإن كان المراد من ) لا يؤمنون ( استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيراً للخبر.
وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجاً على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زماناً غير محررة، وكانَ كل من لاح له فيها دليل استدل به، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنْوِنُها التكليف بالمحال، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية، ومرة للذاتية العادية، ومرة للعرضية، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الإسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاماً وانقلب قتادها ثماماً، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلاً كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء وَلده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى :( ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ( إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة، وأطلق عليها المحال حقيقةً ومطابقة في بعضها والتزاماً في البعض، ومجازاً في البعض، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الإمكان، وعلى الإمكان للحكمة، وعلى الوقوع، فنشأ من تفاوت هاته الأقسام