" صفحة رقم ٢٨٣ "
وقوله :( بما كانوا يكذبون ( الباء للسببية. وقرأ الجمهور ( يُكذِّبون ) بضم أوله وتشديد الذال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخبارَه بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم :( آمنا بالله ( ( البقرة : ٨ ) وعلى كذبهم العام في قولهم :( إنما نحن مصلحون ( ( البقرة : ١١ ) فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين.
والكذب ضد الصدق، وسيأتي عند قوله تعالى :( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة المائدة ( ١٠٣ ). و ( ما ) المجرورة بالباء مصدرية، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون.
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُو
اْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ).
يظهر لي أن جملة ) وإذا قيل لهم ( عطف على جملة ) في قلوبهم مرض ( ( البقرة : ١٠ ) ؛ لأن قوله :( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ( إخبار عن بعض عجيب أحوالهم، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا ) إنما نحن مصلحون ( في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفاً على أقرب الجمل الملظة لأحوالهم وإن كان ذلك آيلاً في المعنى إلى كونه معطوفاً على الصلة في قوله :( من يقول آمنا بالله ( ( البقرة : ٨ ).
و ( إذا ) هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى :( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ( ( آل عمران : ١٥٢ ) الآية. ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون ) إنما نحن مصلحون ( مع كونهم مفسدين، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم ) لا تفسدوا في الأرض ( فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل. وعندي أن هذا هو المقتضى لتقديم الظرف على جملة ) قالوا... (، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم، ونكت الإعجاز لا تتناهى.