" صفحة رقم ٢٩٦ "
وتعدية فعل ( يمد ) إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك.
والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران، وهو مبالغة في الطغْي وهو الإفراط في الشر والكِبْر وتعليق فعل ) يمدهم ( هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله :( في طغيانهم ( ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله :( الله يستهزىء بهم ( وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بُعد.
والعَمَهُ انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عَمِهَ فهو عامه وأعمه.
وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله :( ويمدهم ( إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها. فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلاً من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحارية نفوسهم، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضياً استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو : يزيدك وجهه حسناً وسرتني رؤيتك ؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر : إنه من المجاز الذي لا حقيقة له.


الصفحة التالية
Icon