" صفحة رقم ٣٠١ "
ولما رأيت النَّسْر عزَّ ابنَ دايَةٍ
وعشّش في وَكْرَيْه جاشَ له صدري
فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر ؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فُتَّاك العرب في أمه ( أنشده في ( الكشاف ) ولم أقف على تعيين قائله ) :
وما أُمُّ الرُّدَيْن وإنْ أَدَلَّتْ
بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطانُ قَصَّع في قفاها
تَنَفَّقْنَاهُ بالحَبْل التُّؤَامِ
فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء، وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعاً للأولى. والآية ليست من هذا القبيل. وقوله :( وما كانوا مهتدين ( قد علم من قوله :( اشتروا الضلالة بالهدى ( إلى :( وما كانوا مهتدين، ( فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله :( اشتروا الضلالة بالهدى ( فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعْلوم أنه لم يبق فيهم هدى.
ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي إنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين. وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح، فيقع في الخسران. فقوله :( وما كانوا مهتدين ( تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الحسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتدياً أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه.