" صفحة رقم ٣٦ "
وهذا كمن قال في قوله تعالى ) من ذا الذي يشفع ( من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع. الثالث : عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى ) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ( اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا. ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر : هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول : إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى ) فابعثوا أحدكم بورقكم هذه ( ومشروعية الضمان من قوله ) وأنا به زعيم ). ومشروعية القياس من قوله ) لتحكم بين الناس بما أراك الله ( ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو ) يا جبال أوبي معه ( و ) فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو ) وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.


الصفحة التالية
Icon