" صفحة رقم ٦٨ "
حاشرين - فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( أن نظام مصر في زمن موسى إرسال المؤذنين والبريح بالإعلام بالأمور المهمة. ونعلم من قوله ) قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة ( أنهم كانوا يعلمون وجود الأجباب في الطرقات وهي آبار قصيرة يقصدها المسافرون للاستقاء منها. وقول يعقوب ) وأخاف أن يأكله الذئب ( أن بادية الشام إلى مصر كانت توجد بها الذئاب المفترسة وقد انقطعت منها اليوم.
وفيما ذكرنا ما يدفع عنكم هاجسا رأيته خطر لكثير من أهل اليقين والمتشككين وهو أن يقال : لماذا لم يقع الاستغناء بالقصة الواحدة في حصول المقصود منها. وما فائدة تكرار القصة في سور كثيرة ا وربما تطرق هذا الهاجس ببعضهم إلى مناهج الإلحاد في القرآن. والذي يكشف لسائر المتحيرين حيرتهم على اختلاف نواياهم وتفاوت مداركهم أن القرآن - كما قلنا هو بالخطب والمواعظ أشبه منه بالتآليف. وفوائد القصص تجتلبها المناسبات وتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى. كما لا يقال للخطيب في قوم، ثم دعته المناسبات إلى أن وقف خطيبا في مثل مقامه الأول فخطب بمعان تضمنتها خطبته السابقة إنه أعاد الخطبة، بل إنه أعاد معانيها ولم يعد ألفاظ خطبته. وهذا مقام تظهر فيه مقدرة الخطباء فيحصل من ذكرها هذا المقصد الخطابي. ثم تحصل معه مقاصد أخرى : أحدها رسوخها في الأذهان بتكريرها.
الثاني : ظهور البلاغة، فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها من مجاز أو استعارات أو كناية. وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل : ولئن رددت. ولئن رجعت. وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة، فذلك وجه من وجوه الإعجاز.
الثالث : أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم، فإن تلقي القرآن عند نزوله أوقع في النفوس من تطلبه من حافظيه.