" صفحة رقم ١٦٣ "
فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام.
وعن مجاهد : أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك.
و ) مِن ( بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها.
وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله :( من الذين أوتوا الكتاب ( راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر، وتحريمُ ما حرم الله، والتديُّنُ بدين الحقّ. ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء.
وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا :( يد الله مغلولة ( ( المائدة : ٦٤ ). وقال كثير منهم :( عزيز ابن الله ( ( التوبة : ٣٠ ).
وأثبت النصارى تعدّد الإلاه بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم :( لن تمسسّنا النار إلا أياماً معدودة ( ( البقرة : ٨٠ ) فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر. وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات.