" صفحة رقم ١٩٦ "
عطية :( لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتاباً على تخلّف مَن تخلّف عن غزوة تبوك، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون ) فالكلام متّصل بقوله :( وقاتلوا المشركين كافة ( ( التوبة : ٣٦ ) وبقوله ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون ( ( التوبة : ٢٩ ٣٥ ) كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات.
وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله ( ﷺ ) استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذٍ في شدّة حاجة إلى الظهر والعُدّة. فلذلك سُمّيت غزوة العُسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسولُ الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم، وأخبرهم بوجههِ الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلاّ وَرَّى بما يوهم مكاناً غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلّف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد.
فإنّ نحن جرَينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنّه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسّرين، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت ) إذا ( مستعملة ظرفاً للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالى :( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ( ( الجمعة : ١١ ) وقوله :( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ( ( التوبة : ٩٢ ) الآية، فإنّ قوله :( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ( ( النساء : ٧٥ ) صالح لإفادَة ذلك، وتحذيرٌ من العودة إليه، لأنّ قوله :( إلاَّ تنفروا ( و ) إلاّ تنصروه ( و ) انفروا خفافاً ( مراد به ما يستقبل حين يُدعَون إلى غزوة أخرى، وسنبيّن ذلك مفصّلاً في مواضعه من الآيات.
وإن جرينا على ما عَزاه ابن عطية إلى النقاش : أنّ قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ( هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتاباً على تكاسللٍ وتثاقللٍ ظهرا على بعض الناس، فكانت ) إذا ( ظرفاً للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله :( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ( ( التوبة : ٣٩ ) تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كلّه بعيد ممّا ثبت في ( السيرة ) وما ترجّح في نزول هذه السورة.