" صفحة رقم ١٩٨ "
ذلك الطلب بالالتصاق بالأرض، والتمكّن من القعود، فيأبى النهوض فضلاً عن السير.
وقوله :( إلى الأرض ( كلام موجه بديع : لأنّ تباطؤهم عن الغزو، وتطلّبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتّى جعل بعض المفسّرين معنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى أرضكم ودياركم.
والاستفهام في ) أرضيتم بالحياة الدنيا ( إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين.
و ) مِنْ ( في ) من الآخرة ( للبدل : أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلاً عن الآخرة. ومثل ذلك لا يُرضَى به والمراد بالحياة الدنيا، وبالآخرة : منافعهما، فإنّهم لمّا حاولوا التخلّف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة.
واختير فعل ) رَضيتم ( دون نحو آثرتم أو فضّلتم : مبالغة في الإنكار، لأن فعل ( رضي بكذا ) يدلّ على انشراح النفس، ومنه قول أبي بكر الصديق في حديث الغار ( فشرب حتّى رضيت ).
والمَتاع : اسم مصدر تمتّع، فهو الالتذاذ والتنعّم، كقوله :( متاعاً لكم ولأنعامكم ( ( عبس : ٣٢ ) ووصفه ب ) قليل ( بمعنى ضعيف ودنيء استعير القليل للتافه.
ويحتمل أن يكون المتاع هنا مراداً به الشيء المتمتّع به، من إطلاق المصدر على المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة.
وحرف ) في ( من قوله :( في الآخرة ( دالّ على معنى المقايسة، وقد جعلوا المقايسة من معاني ) في ( كما في ( التسهيل ) و ( المغني )، واستشهدوا بهذه الآية أخذاً من ( الكشاف ) ولم يتكلّم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو ( الكشّاف )، وقد تكرّر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد ( ٢٦ ) ) وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، وقوله في حديث مسلم ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثَل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع وهو في التحقيق ( مِن ) الظرفية المجازية : أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلاً بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنّه ما ظهرت قلّته إلاّ عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها، فالتحقيق أنّ المقايسة معنى حاصل لاستعماللِ حرف الظرفية، وليس معنى موضوعاً له حرف ( في ).