" صفحة رقم ٢١٦ "
ثم إنّ ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوءة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب عليه السّلام أنّ الله سيعلّم يوسف عليه السّلام من تأويل الأحاديث، لأنّ مسَبّبَ الشيء مسبّب عن سَبب ذلك الشيء، فتعليم التّأويل ناشىء عن التشبيه الذي تضمنه قوله :( وكذلك (، ولأنّ اهتمام يوسف عليه السّلام برؤياه وعرضها على أبيه دلّ أباه على أنّ الله أودع في نفس يوسف عليه السّلام الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها. وهذه آية عبرة بحال يعقوب عليه السّلام مع ابنه إذ أشعره بما توسّمه من عناية الله به ليزداد إقبالاً على الكمال بقوله :( ويتمّ نعمته عليك ).
والتّأويل : إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله. وتقدّم عند قوله تعالى :( وما يعلم تأويله إلاّ الله ( سورة آل عمران : ٧ ).
والأحاديث ( : يصحّ أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث : إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام. وهو المعنى بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته، ويصحّ أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدّث به، فالتأويل : تعبير الرؤيا. سمّيت أحاديث لأنّ المرائيَ يتحدثُ بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعضُ المفسرين. واستدلوا بقوله في آخر القصة ) وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ( سورة يوسف : ١٠٠ ). ولعلّ كِلاَ المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازاً معجزاً، إذ يكون قد حكِي به كلام طويل صَدر من يعقوب عليه السّلام بلغته يعبّر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني.
وإتمام النعمة عليه هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوءة، أو هو ضميمة الملك إلى النبوءة والرسالة، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي.


الصفحة التالية
Icon