" صفحة رقم ٣٤٨ "
وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجَدل. فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شُعب النطق الذي هو فَصْل حقيقة الإنسانية، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله : ونقدس لك ( البقرة : ٣٠ ). وأما الشياطين فهم أكثر جدلاً من الإنسان، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل.
وجدلاً ( تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان. والمعنى : وكان الإنسان كثيراً من جهة الجدل، أي كثيراً جدله. ويدل لهذا المعنى ما ثبت في ( الصحيح ) عن علي :( أن النبي ( ﷺ ) طرقه وفاطمةَ ليلاً فقال : ألاَ تصليان ؟ فقال علي : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثَنا، قال : فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يَضرب فخذه ويقول :( وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ). يريد رسول الله ( ﷺ ) أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يُسَرّ بما في كلام رسول الله من مَلام، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه، فذلك محل تعجب رسول الله ( ﷺ ) من جواب علي رضي الله عنه.
ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يرد أن الإنسان أكثر جدلاً من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا. ومن أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل ؟.
والجدل : المنازعة بمعاوضة القول، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه : بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل، قال تعالى :( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ( العنكبوت : ٤٦ )، وقال : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ( المجادلة : ١ )، وقال : يجادلنا في قوم لوط ( هود : ٧٤ )، وقال : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ( النساء : ١٠٧ )، وقال : يجادلونك في الحق بعد ما تبين ( الأنفال : ٦ ).