" صفحة رقم ١١٥ "
وقوله :( ففررت منكم ( أي فراراً مبتدئاً منكم، لأنهم سبب فراره، وهو بتقدير مضاف، أي من خوفكم. والضمير لفرعون وقومِه الذين ائتمروا على قتل موسى، كما قال تعالى :( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ( ( القصص : ٢٠ ). والحكم : الحِكمة والعلم، وأراد بها النبوءة وهي الدرجة الأولى حين كلمه ربّه. ثم قال :( وجعلني من المرسلين ( أي بعد أن أظهر له المعجزة وقال له :( إني اصطفيتك على الناس ( ( الأعراف : ١٤٤ ) أرسله بقوله :( اذهَب إلى فرعون إنه طغى ( ( طه : ٢٤ ).
ثم عاد إلى أول الكلام فكرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله وأبى أن يسميه نعمة، فقوله :( وتلك نعمة ( إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة.
ثم إن جعلت جملة ) أن عبدت ( بياناً لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى :( وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مصبحين ( ( الحجر : ٦٦ ) إذ قوله ) أن دابر هؤلاء ( بيان لقوله :( ذلك الأمر ).
ويجوز أن يكون ) أن عبدت ( في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير : لأن عبَّدتَّ بني إسرائيل.
وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار. ومعنى ) عبدت ( ذَلَّلْت، يقال : عبَّد كما يقال : أعبد بهمزة التعدية. أنشد أيمة اللغة :
حتّامَ يُعْبِدني قومي وقد كَثُرتْ
فيهم آباعِرُ ما شاءوا وَعُبدان
وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أمّ موسى بطفلها في اليمّ حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسِماتتِ وجهه ولون جلده، ولذلك قالت امرأة فرعون ) قُرتُ عين لي ولك لا تَقتلُوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ( ( القصص : ٩ ). وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحساناً ولا منة.


الصفحة التالية
Icon