" صفحة رقم ٢٠٥ "
المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلاً. وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم.
والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله ؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا ) آمنا ( ( العنكبوت : ٢ ) لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك اتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقاً وصدقاً، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حاله عدم رسوخ إيمانه وتزلزله، وهذا كقول النابغة :
أولئك قوم بأسهم غيرُ كاذب
وقول الأعشى في ضده يصف راحلته :
جُمَالِيّة تَغْتَلي بالرِّدا
ففِ إذا كذب الآثِمَاتُ الهجيرا
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى :( أن لهم قدم صدق عند ربهم في أول سورة يونس ( ( ٢ ).
ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقاً عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذباً بهذين المعنيين متقرراً في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدقُ والكذب تعين تأويل فعل ) فليعلمن ( بمعنى : فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع من إثبات تعلقين لعلم الله تعالى : أحدهما قديم، والآخر تنجيزي حادث. ولا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث لأن تعلق الصفة تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها، وتقدم عند قوله تعالى ) إلا لِنَعْلَم مَن يتَّبع الرسول ( في سورة البقرة ( ١٤٣ )، وقوله ) وليعلم الله الذين ءامنوا ويتّخذ منكم شهداء ( في آل عمران ( ١٤٠ ).
ولك أن تجعل العلم هنا مكنى به عن وعد الصادقين ووعيد الكاذبين لأن العلم سبب للجزاء بما يقتضيه فكانت الكناية مقصودة وهو المعنى الأهم.


الصفحة التالية
Icon