" صفحة رقم ٢٦٠ "
ولإفادة هذا المعنى قيّد بقوله ) بأفواهكم ( فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر ) بأفواهكم ( مع العلم به مشيراً إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجودُ في اللسان والوجودُ في الأذهان دون الوجود في العيان، ونظير هذا قوله تعالى :( كلا إنها كلمة هو قائلها ( ( المؤمنون : ١٠٠ ) أي : لا تتجاوز ذلك الحد، أي : لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر :( رب ارجعون لَعَلِّيَ أعملُ صالحاً فيما تركت ( ( المؤمنون : ٩٩ ١٠٠ )، فعلم من تقييده ) بأفواهكم ( أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحاً بقوله ) والله يقول الحق ( فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب. ولهذا عطفت عليه جملة ) والله يقول الحق ( لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله ) ما جعل الله ( الخ. فمعنى كونها أقوالاً : أن ناساً يقولون : جميل له قلبان، وناساً يقولون لأزواجهم : أنت كظهر أمي، وناساً يقولون للدعي : فلان ابن فلان، يريدون مَن تبناه.
وانتصب ) الحقَ ( على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به ل ) يقول. ( تقديره : الكلام الحق، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو ) إنها كلمةٌ هو قائلها ( ( المؤمنون : ١٠٠ )، فالهاء المضاف إليها ( قائل ) عائدة إلى ) كلمة ( وهي مفعول أضيف إليها. وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندَيْن الفعليَيْن إفادة قصر القلب، أي : هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام. ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصرُ معموليهما بالقرينة، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلاً ومجهلة. فالمعنى : وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل.
و ) السبيل : الطريق السابلة الواضحة، أي : الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها. وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظاً ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيداً