" صفحة رقم ٥٤ "
المستأصلة، فتعين استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثواباً للصالحين على قدر صلاحهم وعقاباً للمفسدين بمقدار عملهم، واقعاً ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيهاً على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكانَ من حق آثار هاته الحِكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدوداً بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلاً معيناً، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.
فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابِسةً له، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتماماً بشأنه، وتنبيهاً على مكانه، وإظهاراً أنه المقصدُ بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ( ( المؤمنون : ١١٥ ) فقال ) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى.
وقد مضى في سورة الأنعام قوله وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق الآية. وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نَعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنَكِلُ أمره إلى الله ونقيسُ غائبه على الشاهد، فنُوقنُ بأنه ما خُلق إلا بالحق كذلك. فشواهد حقيَّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون (، وهذا كقوله تعالى ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون ( ( المؤمنون : ١١٥ ).
والمسمَّى : المقدَّر. أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى :( ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى في سورة الحج. وعند قوله تعالى