" صفحة رقم ٥٧ "
وجملة ) كانوا أشد منهم قوة ( بيان لجملة ) كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
والشدة : صلابة جسم، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيهاً لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول. وتقدم في قوله : وأولوا بأس شديد في سورة النمل.
والقوة : حالة بها يقاوم صاحبها ما يوجب انخرامه، فمن ذلك قوة البدن، وقوة الخشب، وتستعار القوة لما به تُدفع العادية وتستقيم الحالة ؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله : نحن أولوا قوة ( ( النمل : ٣٣ ) فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كِيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عُدد حربيّة وأموال وأبناء وأزواج. وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عاديُّ نسبةً إلى عاد.
وعطف ) أثاروا ( على ) كانوا ( فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة، وهي تحريك أجزاء الشيء، فالإثارة : رفع الشيء المستقر وقَلْبُه بعد استقراره، قال تعالى :( الله الذي يرسل الرياح فتُثير سحاباً ( ( الروم : ٤٨ ) أي : تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان. وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطناً ظاهراً وهو الحرث، قال تعالى :( لا ذلول تثير الأرض ( ( البقرة : ٧١ )، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب :
يُثرنَ الحصى حتى يباشرن بَرده
إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل
ويجوز أن يكون ) أثاروا ( هنا تمثيلاً لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكناً ويهيجه، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة. وضمير ) أثاروا ( عائد إلى ما عاد إليه ضمير ) كانوا أشد.
ومعنى عمارة الأرض : جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع.