" صفحة رقم ١٣٦ "
الكمالات التي بها استقامة السِيَر، وإزالةُ الغِيَر، ونزول الغيوث بالمطر. وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين، ومنابت أرزاق المرتزقين، وميادين نفوس السائرين.
وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لَها بما تحتوي عليه أدنى شعور، ونَسُوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض.
وجملة ) وله الحمد في الآخرة ( عطف على الصلة، أي والذي له الحمد في الآخرة، وهذا إنباء بأنه مالكُ الأمر كله في الآخرة.
وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة. وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي لا حمد في الآخرة إلا له، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذٍ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور.
واعلم أن جملة :( الحمد لله ( وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصراً مجازياً للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه، فلما شاع ذلك في جملة ) الحمد لله ( وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة ) له الحمد ( لهذا الاعتبار، وهذا نظير معنى قوله تعالى :( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ( غافر : ١٦ )، فالمعنى : أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذٍ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرفُ غيرهِ بتصرفه.
ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجعَ التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي ) الحكيم الخبير (، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها. فالحكمة : إتقان التصرف بالإِيجاد وضده، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها.
والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإِحكام وهو الإِتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء


الصفحة التالية
Icon