" صفحة رقم ١٣٨ "
الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل : يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يُكتَفَ بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإِنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقتها بكتابي ( أصول الإنشاء والخطابة ) بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد.
ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكَلم الطيّب أتبع ذلك بقوله :( وهو الرحيم الغفور ( أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما، فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.
كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعراً بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى :( ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً ( ( المرسلات : ٢٥، ٢٦ ) وقال :( يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير ( ( ق : ٤٤ )، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها مومياً إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتُرَدّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله :( وله الحمد في الآخرة ( ( سبأ : ١ ) مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة، فكان التخلص بقوله :( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة (، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام. ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطراداً واعتراضاً، وتقدم آنفاً ما قيل : إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة.


الصفحة التالية
Icon