" صفحة رقم ١٩٣ "
وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلاً لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده. وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب، متَسعَ النظر، منشرحَ الصدر : ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.
وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلاً لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه. وفيه أيضاً تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى :( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ( ( الأنعام : ١٢٥ ).
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع.
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة : الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر. ولذلك قيل كفرٌ دون كفر، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده.
أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالاً آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقدم آنفاً واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإِصغاء إليه.
ولما كان هذا القول يتضمن بياناً للقول الذي قبله فُصِلتْ جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق، فإنه لما ردَّد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما على هدى والآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإِجرام