" صفحة رقم ٢٣٤ "
في خُلقه كقول الحجّاج في خطبته للخوارج ( ألستُمْ أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدْر واستبطنتم الكفر ) يعني فلا تخفى عليّ مقاصدكم. وتقدم في قوله تعالى :( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة في سورة الأعراف.
والتعبير بصاحبكم ( إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : ما بي من جِنّة إذ الكلام جار على لسان الرسول ( ﷺ ) كما تقدم آنفاً. وفائدته التنبيه على أن حاله معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تَذَر للجهالة مجالاً فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله :( فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون ( ( يونس : ١٦ ).
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجِنة عن النبي ( ﷺ ) هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا : مجنون، وقالوا : ساحر، وقالوا : كاذب. فابتدىء في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجِنّة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن، قال تعالى :( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ( القلم : ٢ ) في السورة الثانية نزولاً. وقال :( وما صاحبكم بمجنون في السورة السابعة ( ( التكوير : ٢٢ ) وذلك هو الذي استمرّوا عليه قال تعالى :( ثم تولّوا عنه وقالوا معلّم مجنون ( ( الدخان : ١٤ ) إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإِنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قالت عاد لهود ) إِن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء ( ( هود : ٥٤ )، وقالت ثمود لصالح ) قد كنت فينا مَرجُوًّا قبل هذا ( ( هود : ٦٢ ).
فبقيت دعواهم أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب ( حاشاه ). فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما ؛ فأما انتفاء السحر فبيّن لأنه يحتاج إلى معالجة تعلّم ومزاولة طويلة والنبي ( ﷺ ) بين ظهرانيهم لا يَخفى عليهم أمره، وأما الشعر فمسحته منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة، فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله، وهذا يزيفه قوله :( بصاحبكم ( فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذباً كما قال النضر بن الحارث : فلما رأيتم الشَيْب في صدغيه قلتُم شاعر