" صفحة رقم ١٣٢ "
من القواطع، ويكون القصر إضافياً أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم. وقد يقال : نسلّم أن الطوفان لم يعمّ الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تُترك ظواهر الأخبار لأجلها.
وزاد الله في عداد كرامة نوح عليه السلام قوله :( وتَرَكنا عليه في الآخِرِينَ (، فتلك نعمة خامسة.
والتَرك : حقيقته تخليف شيء والتخلي عنه. وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة، لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعدُ، طالَ مُكثها أو قصر، فكأنَّ زوالَها استرجاعٌ من معطيها كما جاء في الحديث :( لله ما أخذ وله ما أعطى ) فشرَف الله نوحاً بأن أبقى نعمهُ عليه في أمم بعده.
وظاهر ) الآخِرِينَ ( أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم، وقرينة المجاز تعليق ) عَلَيْهِ ( ب ) تركنا ( لأنه يناسب الإِبقاء، يقال : أبقى على كذا، أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر، وعلى هذا لا يكون ل ) تركنا ( مفعول، وبعضهم قدّر له مفعولاً يدل عليه المقام، أي تركنا ثناء عليه، فيجوز أن يراد بهذا الإِبقاء تعميره ألف سنة، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحيّ إليه فوق ما هو متعارف. ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم :( واجعل لي لسانَ صدْققٍ في الآخرين ( ( الشعراء : ٨٤ ) فكان نوح مذكوراً بمحامد الخصال حتى قيل : لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحَاً وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم. فجاء في ( سفر التكوين ) الإِصحاح التاسع : كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله وسار نوح مع الله. وورد ذكره قبل الإِسلام في قول النابغة :
فألفيتَ الأمانة لم تخنا
كذلكَ كان نوح لا يخون
وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله :( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً ( ( الإسراء : ٣ ).


الصفحة التالية
Icon