" صفحة رقم ١٥٤ "
) لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق ( ( الفتح : ٢٧ ). وفي حديث عائشة :( أول ما بُدِىءَ به رسول الله ( ﷺ ) من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَق الصبح ). وبضد ذلك يقال : كذبتْ الرؤيا، إذا حصل خلاف ما رأى. وفي الحديث :( إذا اقترب الزمان لم تكد تَكذب رؤيا المؤمن )، فمعنى ) قد صدَّقْتَ الرؤيا ( قد فعلتَ مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله. وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك.
والمراد : أنه صدق ما رآه إلى حدِّ إمرار السكين على رقبة ابنه، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطابُ نسخاً لما في الرؤيا من إيقاع الذبح، وذلك جاء من قِبل الله لا من تقصير إبراهيم، فإبراهيم صدَّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مِثالها، فأُطلق على تصديقه أكثرَها أنه صدَّقها، وجُعِل ذبح الكبش تأويلاً لذبح الولد الواقع في الرؤيا.
وجملة ) إنَّا كذلك نَجزي المحسنين ( تعليل لجملة ) وناديناهُ ( لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه. وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيمَ، ويجوز أن تكون معترضة بين جُمل خطاب إبراهيم، والإِشارة في قوله :( كذالِك ( إلى المصدر المأخوذ من فعل ) صَدَّقتَ ( من المصدر وهو التصديق مثل عَود الضمير على المصدر المأخوذ من ) اعدلوا هو أقرب للتقوى ( ( المائدة : ٨ )، أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق، أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاءً عظيماً للمحسنين، أي الكاملين في الإِحسان، أي وأنت منهم.
ولِما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عُظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بُعداً اعتبارياً وهو الرفعة وعُظم القدر في الشرف، فالتقدير : إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإِحسان الذي أحسنتَ به بتصديقك الرؤيا، مكافأة على مقدار الإِحسان فإنه بذل أعَزّ الأشياء عليه في طاعة ربّه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى، فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيَّلان بما يتسع له التخيّل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعْد الصادق من جزاءِ


الصفحة التالية
Icon