" صفحة رقم ٢٧٠ "
لأن حقيقة الاستتار إخفاء الذوات والذي شهدت به جوارحهم هو اعتقاد الشرك والأقوال الداعية إليه. وحرف ) ما ( نفي بقرينة قوله بعده :( وَلاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ ( الخ، ولا بد من تقدير حرف جر يتعدى به فعل ) تَستتِرُونَ ( إلى ) أَن يَشْهَدَ ( وهو محذوف على الطريقة المشهورة في حذف حرف الجر مع ( أَنْ ). وتقديره : بحسب ما يدل عليه الكلام وهو هنا يقدر حرفَ مِن، أي ما كنتم تستترون من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم، أي ما كنتم تستترون من تلك الشهود، وما كنتم تتقون شهادتها، إذ لا تحسبون أن ما أنتم عليه ضائر إذ أنتم لا تؤمنون بوقوع يوم الحساب.
فأما ما ورد في سبب نزول الآية فهو حديث ( الصحيحين ) و ( جامع الترمذي ) بأسانيد يزيد بعضها على بعض إلى عبد الله بن مسعود قال :( كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليلٌ فِقْهُ قلوبهم كثيرٌ شحْم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر : يَسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، قال عبد الله : فذكرتُ ذلك للنبيء ( ﷺ ) فأنزل الله تعالى :( وَمَا كُنْتم تَستَتِرُونَ أَن يَشْهَد عَلَيكُم سَمْعُكُم وَلا أَبْصارُكُم ( إلى قوله :( فَأَصْبَحْتُم مِنَ الخاسِرِينَ ). وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا العمل للتساوي في التفكير. ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريباً، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها، ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله ( ﷺ ) أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم.


الصفحة التالية
Icon