" صفحة رقم ٢٩٢ "
وإنما أمر الرسول ( ﷺ ) بذلك لأن منتهى الكمال البشري خُلُقُه كما قال :( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ). وقالت عائشة لما سئلت عن خلُقه ( كان خلقه القرآن ) لأنه أفضل الحكماء.
والإحسان كمال ذاتي ولكنه قد يكون تركه محموداً في الحدود ونحوها فذلك معنىً خاص. والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة :( ما انتقم رسول الله ( ﷺ ) لنفسه قط إلاّ أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لله ). وتخلُّقُ الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى :( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللَّه ( ( الشورى : ٤٠ ).
وروى عياض في ( الشفاء ) وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابنُ جرير في ( تفسيره ) لما نزل قوله تعالى :( خذ العفو ( ( الأعراف : ١٩٩ ) سألَ النبيءُ ( ﷺ ) جبريلَ عن تأويلها فقال له : حتى أسأل العالِم، فأتاه فقال :( يا محمد إن الله يأمرك أن تَصِل من قطعك وتُعطيَ من حَرمَك وتعفوَ عمن ظلمك ).
ومفعول ) ادْفَع ( محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعاً بها تعيّن أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير : ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله تعالى :( ويدرءون بالحسنة السيئة ( في سورة الرعد وقوله :( ادفع بالتي هي أحسن السيئة ( في سورة المؤمنين.
و ) التي هي أحسن ( هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيباً في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أُمر الرسول ( ﷺ ) بأن يجازي السيئة بالحسنة أشير إلى فضل ذلك. وقد ورد في صفة رسول الله ( ﷺ ) ( ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ). وقد قيل : إن ذلك وصفه في التوراة. وفرع على هذا الأمر قوله :( فَإِذَا الذي بَيْنَك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حَمِيمٌ ( لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضاً على التخلق بذلك الخُلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدراً للإحسان. ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مَثَارِها. وأَمَرَ الله رسوله ( ﷺ ) بالدفع بالتي هي أحسن أردفه بذكر بعض محاسنه


الصفحة التالية
Icon