" صفحة رقم ٢٠٨ "
عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سبباً لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد. وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البيّن، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمى ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبْعاً على القلب وأكنَّة فيه وختماً عليه ولا يضعُف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور فربّما أضاءت فصادفت قوةُ نور الحق حالةَ وهَن الشيطان فتتغلب القوة المَلكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله. وقد أشار إلى ذلك قوله :( أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين ( ( الزخرف : ٥ ) كما تقدم هنالك، ولولا ذلك لَمَا ارعوى ضالّ عن ضلاله ولمَا نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين.
فجملة ) ومن يعش عن ذكر الرحمن ( عطف على جملة ) ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحرٌ ( ( الزخرف : ٣٠ ) الآية.
فجملة ) ومن يعش عن ذكر الرحمن ( تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم :( قلوبنا في أكِنَّةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ( ( فصلت : ٥ ) بحال من يَعشو عن الشيء الظاهر للبصر.
و ) يَعش ( : مضارع عشا كغَزَا عَشْواً بالواو، إذا نظر إلى الشيء نظراً غير ثابت يُشبه نظر الأعشى، وأما العَشَا بفتح العين والشين فهو اسم ضُعف العين عن رؤية الأشياء، يقال : عَشِي بالياء مثل عرِج إذا كانت في بصره آفة العَشَا ومصدره عَشًى بفتح العين والقصر مثل العرج. والفعل واوي عشا يعشو، ويقال عشِيَ يعشَى إذا صار العَشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيراً على فَعِل بكسر العين مثل مرِض. وعشِي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء.