" صفحة رقم ١٧٩ "
وعُدِل عن أن يقال : إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ( ( الإنسان : ٢ ) وقال :( أو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ( ( يس : ٧٧، ٧٨ ) وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله :( مما يعلمون ( توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى :( ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون ( ( الواقعة : ٦٢ ). وكان في قوله تعالى :( مما يعلمون ( إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثاني ) مما لا يعلمون كما قال في الآية الأخرى سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ( ( يس : ٣٦ ) وقال :( وننشئكم فيما لا تعلمون ( ( الواقعة : ٦١ ) فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه.
ومجيء ) إنا خلقناهم ( موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله :( فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم ( مفرعاً على قوله :( إنا خلقناهم مما يعلمون ( والتقدير : فإنا لقادرون الآية.
وجملة ( لا أقسم برب المشارق ) الخ معترضة بين الفاء وما عطفته.
والقَسَم بالله بعنوان ربوبيته المشارقَ والمغارب معناه : ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.
وجمع ) المشارق والمغارب ( باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات، ولذلك لم يذكر في القرآن قسَم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب، أقسم الله به على سُنة أقسام القرآن.
وفي إيثار ) المشارق والمغارب ( بالقسم بربها رَعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإِحياءِ بعد الموت.


الصفحة التالية
Icon