" صفحة رقم ٢٠٤ "
وفي جعل القمر نوراً إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم وإنما يستضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعُّض وتمام هو أثر ظهوره هلالاً ثم اتساع استنارته إلى أن يصير بدراً، ثم ارتجاع ذلك، وفي تلك الأحوال يضيء على الأرض إلى أن يكون المحاق. وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجاً لأنها ملتهبة وأنوارها ذاتية فيها صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر مثل أنوار السراج تملأ البيت وتُلمع أوانيَ الفضة ونحوها مما في البيت من الأشياء المقابلة.
وقد اجتمع في قوله : وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً ( استدلال وامتنان.
( ١٧ ١٨ ).
أنشأ الاستدلال بخلق السماوات حضورَ الأرض في الخيال فأعقَبَ نوح به دليلَهُ السابقَ، استدلالاً بأعجب ما يرونه من أحوال ما على الأرض وهو حال الموت والإِقبار، ومهَّد لذلك ما يتقدمه من إنشاء الناس.
وأدمج في ذلك تعليمهم بأن الإِنسان مخلوق من عناصر الأرض مثل النبات وإعلامهم بأن بعد الموت حياة أخرى.
وأُطلق على معنى : أنشأكم، فعلُ ) أنبتكم ( للمشابهة بين إنشاء الإِنسان وإنبات النبات من حيث إن كليهما تكوين كما قال تعالى :( وأنبتها نباتاً حسناً ( ( آل عمران : ٣٧ )، أي أنشأها وكما يقولون : زَرعك الله للخير، ويزيد وجه الشبه هنا قرباً من حيث إن إنشاء الإِنسان مركب من عناصر الأرض، وقيل التقدير : أنبتَ أصلكم، أي آدم عليه السلام، قال تعالى :( كمثل آدم خلقه من تراب ( ( آل عمران : ٥٩ ).
و ) نباتاً ( : اسم من أنبت، عومل معاملة المصدر فوقع مفعولاً مطلقاً ل ) أنبتكم ( للتوكيد، ولم يجر على قياس فعله فيقال : إنباتاً، لأن نباتاً أخف فلما تسَنى الإِتيان به لأنه مستعمل فصيح لم يُعدل عنه إلى الثقيل كمالاً في الفصاحة، بخلاف قوله بعده ) إخراجاً ( فإنه لم يعدل عنه إلى : خروجاً، لعدم ملاءمته لألفاظ


الصفحة التالية
Icon