" صفحة رقم ٢١٨ "
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله :( كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً ( ( الجن : ٧ ) حسبما يأتي.
أمر الله رسوله ( ﷺ ) بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحَى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريماً لنبيئه وتنويهاً بالقرآن وهو أن سخر بعضاً من النوع المسمى جنّاً لاستماع القرآن وألهمهم أو علَّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإِيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدُو أحدُهم في مدة الدنيا جِبلتَه فيكون على معيارها مصيرُه الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يَبعث إليهم بشرائع.
وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإِسلام وهديه ففهموه.
هذا العالَم هو عالم الجنّ وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحَسَنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفية عن حاسة البصر والسمع، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساماً ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة وإرَادة وإدراك خاص بها لا يُدرى مَداه. وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلاّ إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقاً للعادة لأمر قضاه الله وأراده.
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدو أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة، حصل ما يقتضي الإعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسَّر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.


الصفحة التالية
Icon