" صفحة رقم ٤١٤ "
وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس ( ١١، ١٢ ) :( كلاّ إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن، من العمل بها المعبِر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صُرفت العناية والاهتمامُ إلى ما يُلَوِّح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل.
وفعل كان ( يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له.
وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين : إحداهما مشيئة العباد، والأخرى مشيئة الله، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلاً للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضُها بانفرادِه نَوْطَ التكاليف بمشيئة العباد وثوابَهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم، والمقتضي بعضُها الآخر مشيئةً لله في أفعال عباده.
فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرةً بانفعال النفوس لفاعليَّة الترغيب والترهيب، وأما مشيئة الله انفعالَ النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإِلاهية التي إن حصلتْ فحصلت مشيئة العبد عَلِمْنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد.
وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشرِ من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك، مِما في ذلك كله من إصابة أو خطأ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتَلاءَم بعضُها مع بعض أو رجَح خَيْرها على شرها عَرَفْنا مشيئة الله لأن تلك آثار مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستتب لفلان، فعلمُه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته، وإذا تعاكست وتنافر بعضُها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حفّ بذلك الفرد، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يَشاء الشر، ولا مخلص للعبد من هذه الرِبقة إلاّ إذا توجهت إليه عنايةُ من الله ولطف فكَوَّن كائنات إذا دخلت تلك الكائناتُ فيما


الصفحة التالية
Icon