" صفحة رقم ١٥٤ "
ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب.
وضمير ) منه ( عائد إلى القرآن. و ( منه ) خبر مقدم و ) آيات محكمات ( مبتدأ.
والإحكام في الأصل المنع، قال جرير :
أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكم
إنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا
واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق ؛ لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة، وهو حقيقة أو مجاز مشهور.
أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد.
وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض.
وقوله :( أم الكتاب ( أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه، ومنه سمّيت خريطة الرأس، الجامعة له : أمّ الرأس وهي الدمَاغ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيْش ينضوي إليها، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ. ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن.
والكتاب : القرآن لا محالة ؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله :( هو الذي أنزل عليك الكتاب ( فليس قوله :( أم الكتاب ( هنا بمثللِ قوله :( وعنده أم الكتاب ( ( الرعد : ٣٩ ).
وقوله :( وأُخر متشابهات ( المتشابهات المتماثلات، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً، كما في قوله تعالى :( إن البقر تشابه علينا ( ( البقرة : ٧٠ ) ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه.


الصفحة التالية
Icon