" صفحة رقم ١٥٦ "
وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضاً : أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية.
وعن الأصم : المحكم ما اتّضح دليلُه، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر، وذلك كقوله تعالى : والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون ( ( الزخرف : ١١ ) فأولها محكم وآخرها متشابه.
وللجمهور مذهبان : أولهما أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب، من جامع العتبيَّة، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية وإليه مال الشاطبي في الموافقات.
وثانيهما أنّ المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيُها، وإليه مال الفخر : فالنص والظاهر هنا المحكم، لاتّضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما : أي المؤول دالاً على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية.
قال الشاطبي : فالتشابه : حقيقي، وإضافي، فالحقيقي : ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي : ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصّى المجتهد أدلّة الشريعة وجد فيها ما يبيّن معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّاً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير.
وقد دل هذه الآية على أنّ من القرآن محكماً ومتشابهاً، ودلت آيات أخر على أنّ القرآن كلَّه محكم، قال تعالى :( كتاب أحكمت آياته ( ( هود : ١ ) وقال :( تلك آيات الكتاب الحكيم ( ( يونس : ١ ) والمراد أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته، كما دلت آيات على أنّ القرآن كلّه متشابه، قال تعالى :( اللَّهُ نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً ( ( الزمر : ٢٣ ) والمعنى أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة، وهو معنَى :( ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) فلا تعارض بين هذه الآيات : لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.


الصفحة التالية
Icon