" صفحة رقم ١٩٢ "
في قديم العصور، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معيّنين ؛ وفي حديث مسلم، في صفة عرض الأمم للحساب أنّ رسول الله قال :( فيجيء النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد ) وفي رواية البخاري :( فجعل النبي والنّبيئان يمرّون معهم الرهط ) الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعاً بين الأمم، ففي كلّ أمة تجد سداداً وأفناً، وبعض الحق لم يزل مخبوءاً لم يسفر عنه البيان.
ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل، فحصل للأمم حظ من الحضارة، وتقاربت العوائد، وتوسّعت معلوماتهم، وحضارتهم، فكانت من الشرائع الإلهية : شريعة إبراهيم عليه السلام، ومن غيرها شريعة ( حمورابي ) في العراق، وشريعة البراهمة، وشريعة المصريين التي ذكرها الله تعالى في قوله :( ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك ( ( يوسف : ٧٦ ).
ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة ( زرادشت ) في الفرس، وشريعة ( كنفشيوس ) في الصين، وشريعة ( سولون ) في اليونان.
وفي هذه العصور كلّها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدْعُ غير بين إسرائيل ولم تدع الأممَ الأخرى التي مرّت عليها، وامتزجت بها، وصاهرتها، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناسَ إليها القدّيس بُولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة.
إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعوائد، بسببين : اضطراري، واختياري. أمّا الاضطراري فذلك أنّه قد ترامت الأمم بعضها على بعض، واتّجه أهل الشرق إلى الغرب، وأهل الغرب إلى الشرق، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم، وهما يومئذ قطبا العالم، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها، فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، وتوالت أزماناً طويلة.


الصفحة التالية
Icon