" صفحة رقم ١٩٤ "
ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر، وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالاً، ولا تفضي إلى فساد، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاصة. فبهذا الأصل : أصللِ الفطرة كان الإسلام ديناً صالحاً لجميع الأمم في جميع الأعصر.
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمةٍ له ومهيّئةٍ جميع الناس لقبوله.
المظهر الأول : إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقادٍ لا يشوبه تردّد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بِكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتّصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارياً، ثم لتصيرَ تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلّق بها ثم بحمل جميع الناس على تطْهير عقائدهم حتى يتّحد مبدأ التخلّق فيهم ) قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه ( ( آل عمران : ٦٤ ).
وكان إصلاح الإعتقاد أهمّ ما ابتدأ به الإسلام، وأكثرَ ما تعرّض له ؛ وذلك لأنّ إصلاح الفكرة هو مبدأ كلّ إصلاح ؛ ولأنّه لا يرجى صح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالّة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة : خوفاً من لا شَيء، وطمعاً في غير شيء، وإذا صلح الإعتقاد أمكن صلاح الباقي ؛ لأنّ المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الإعتقاد الإسلامي : عزّة النفس، وأصلة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثاراً لا يشبهه فيه دين آخر ؛ بل إنّك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلاّ قليلاً.
المظهر الثاني : جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديان لا يتطرّق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرّق إليه إلاّ أنّه لم يوفه حقه، بل كان معظم اهتمامها منصرفاً إلى المواعظ والعبادات،


الصفحة التالية
Icon