" صفحة رقم ٢١٠ "
الأسلوب. والمعنى : يُدعون إلى اتّباع القرآن والنظرِ في معانيه ليحكم بينهم فيأبون. ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب، وإنّما غير اللفظ تفنّناً وتنويهاً بالمدعوّ إليه، أي يُدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد، وتلميحَه إلى صفاته.
روي، في سبب نزول هذه الآية : أنّ رسول الله ( ﷺ ) دخل مِدْراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام، فقال له نُعيم بن عمرو، والحارث بن زَيد : على أيّ دين أنت قال : على ملة إبراهيم قالا : فإنّ إبراهيم كان يهودياً. فقال لهما : إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها، فأبيا،
وقوله :( ثم يتولى فريق منهم ( ( ثم ) عاطفة جملة ) يتولّى فريق منهم ( على جملة ) يدعون ( فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت ( ثم ) على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولَّون ثم يتولّون ؛ لأنّ المرء قد يُعرض غضباً، أو لِعِظَم المفاجأة بالأمر غيرِ المترقَّب، ثم يثوب إليه رشده، ويراجع نفسه، فيرجع، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخخٍ حاصل بفحوى الخطاب.
فدخول ) ثم ( للدلالة على التراخي الرتبي ؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتُوا الكتاب ونقلوه، فإذا دُعوا إلى كتابهم تولّوا. والإتيان بالمضارع في قوله :( يتولون ( للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن عُلبة الحارثي :
ولا يكشف الغَمَّاء إلاّ ابن حرة
يَرَى غَمَراتتِ الموتتِ ثُم يَزُورها
والتولّي مجاز عن النفور والإباء، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان.
وجملة ) وهم معرضون ( حال مؤكّدة لجملة ) يتولّى فريق ( إذ التولّي هو الإعراض، ولما كانت حالاً لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدّد الإعراض، منهم المفاد أيضاً من المضارع في قوله :( ثم يتولى فريق منهم ).
وقوله :( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار ( الإشارة إلى تولّيهم وإعراضهم، والباء للسببية : أي إنّهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنّهم في أمان من العذاب إلاّ أياماً قليلة،


الصفحة التالية
Icon