" صفحة رقم ٢٩٤ "
عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل، ويقال أيضاً : ليس له أن يفعل، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى :( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ( ( طه : ١١٨ ).
فمعنى الآية : ليس قولُ ) كونوا عباداً لي ( حقاً لبشر أيِّ بشر كان. وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو ) وما كان الله ليعذّبهم ( ( الأنفال : ٣٣ )، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولاً لأجل فِعْل كذا، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحوداً.
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله :( ثم يقول للناس كونوا عباداً لي ( أي ما كان له أن يقول كونوا عباداً لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ.
والعباد جمع عبد كالعبيد، وقال ابن عطية :( الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير، والعبيد يقصد منه، ولذلك قال تعالى :( يا عبادي ) وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم : هم عبيد العَصا، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى :( وما ربك بظلام للعبيد ( ( فصلت : ٤٦ ) ؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك آنس بها في قوله تعالى :( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( ( الزمر : ٥٣ ) فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية ). اه.
وقوله :( من دون الله ( قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباداً للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّاً لهم، وجعلوه ابناً للَّه، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيدُ عيسى، فلذلك


الصفحة التالية
Icon