" صفحة رقم ٣٠٧ "
هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروضٌ هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب :
لَيْسَ الجمالُ بمِئْزَرٍ
فاعْلَمْ وإنْ رُدِّيتَ بُرْدا
ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطاً هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله : وإنْ رُدّيت بُردا إنْ لم تُرَدَّ بُردا بل وإن رُدِّيتَ بردا وكذا قول النابغة :
سأكْعَمُ كَلبي أَن يَريبَك نبحُه
ولو كنْتُ أرْعى مُسْحلاننِ فَحَامِرا
ولأجل ذلك، ورد إشكال على هذه الآية : لأنّ ما بعد ) ولو ( فيها هو عين ما قبلها، إذ الافتداء هو عين بَذل مِلْءِ الأرض ذهباً، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولَو افتدى به، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية : فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة، أي لا يفديهم شيء من العذاب، وهذا الوجه بعيد، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه، وقال قوم : الواو زائدة، وقال في ( الكشاف ) : هو محمول على المعنى كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى مِلء الأرض ذهباً، يريد أنّ كلمة بمِلء الأرض في قوة كلمة فدية واختُصر بعد ذلك بالضمير، قال ويجوز أن يقدر كلمة ( مثل ) قبل الضمير المجرور : أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفَه كقوله :( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ( ( الزمر : ٤٧ ).
وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جارٍ على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال، محقّق أو مقدّر، يتوهمه المتكلم من المخاطَب فيريد تقريره، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله، بل قد يكون كذلك، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمّنه الحكم تثبيتاً على المتكلم على حدّ قولهم :( ادْرِ ما تقول ) فيجيب المتكلم بإعادة السوال تقريراً له وإيذاناً بأنه تكلم عن بينة، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة، وهو من شواهد هذا :
قالت بناتُ العَمِّ يا سلمَى وإنْ
كَان فَقيراً مُعْدِمَا قالتْ وإنْ


الصفحة التالية
Icon