" صفحة رقم ١١٣ "
ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العُبوس له، والتولّي عنه، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه.
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي ( ﷺ ) ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم :( مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله ) إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي ( ﷺ ) في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَاننِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما : إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية.
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيماناً وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.
ومن القواعد المستقرَاةِ من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفيُ الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي ( ﷺ ) إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة :( فاتقوا اللَّه ما استطعتم ( ( التغابن : ١٦ ) وهو القائل :( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار )، وهو القائل :( أمرت أن أحكم بالظاهر واللَّه يتولى السرائر ) وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد. فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاءَ نفس وإشراقَ قلب لا يتهيآن له في كل وقت.


الصفحة التالية
Icon