" صفحة رقم ٢٨٩ "
( ١٦، ١٧ )
قرأ الجمهور ) تؤثرون ( بمثناة فوقية بصيغة الخطاب، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات، وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى ) الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ( ( الأعلى : ١١، ١٢ ).
وحرف ) بَل ( معناه الجامع هو الإضراب، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد ) بل ( ؛ فهو إذا عَطَف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم. وإذا عطفَ الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى :( أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق ( ( المؤمنون : ٧٠ ) فهو انصراف في الحُكم، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى :( ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ( ( المؤمنون : ٦٢، ٦٣ ). فتكون ) بل ( بمنزلة قولهم ( دع هذا ) فهذا انصراف قولي. ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق.
و ) بل ( هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة.
ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله :( قد أفلح من تزكى ( ( الأعلى : ١٤ ) من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح.
والمعنى : أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح ( لقد نصحتك وما أظنك تفعل ).


الصفحة التالية
Icon