" صفحة رقم ٣٨٤ "
وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جُعل ضمير الغيبة في ( نيسره لليسرى ) العائدُ إلى ) من أعطى واتقى ( هو الميسرَ، وجعل ضمير الغيبة في ( نيسره للعسرى ) العائدُ إلى ) من بخل واستغنى ( هو الميسرَ، أي الذي صار الفعل صعبُ الحصول حاصلاً له، وإذ وقع المجروران باللام ( اليسرى ) و ( العسرى )، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بَخل، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين :
الأولى : إيفاء فعل ( نيسر ) على حقيقته وجَعْلُ الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام : فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب، فيصار إلى أن المتقضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسَّر ميسراً له والميسر له ميسراً على نحو ما وجهوا به قول العرب : عرضت الناقة على الحوض.
والثانية : أن يكون التيسير مستعملاً مجازاً مرسلاً في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له، وتكون اللام من قوله :( لليسرى ( و ) للعسرى ( لام التعليل، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى، فالمراد باليسرى الجنة وبالعُسرى جهنم، على أن يكون الوصفان صارا علماً بالغلبة على الجنة وعلى النار، والتهيئةُ لا تكون لذات الجنة وذاتتِ النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخُول اليسرى ولدخول العسرى، أي سنعجّل به ذلك.
والمعنى : سنَجْعل دخول هذه الجنةَ سريعاً ودخولَ الآخِر النارَ سريعاً، بشبه الميسَّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإِبطاءُ وشأن السهل السرعةُ، ومنه قوله تعالى :( ذلك حشر علينا يسير ( ( ق : ٤٤ )، أي سريع عاجل. ويكون على هذا الوجه قوله :( فسنيسره للعسرى ( مشاكلةٌ بُنِيت على استعارة تهكمية قرينتها قولُه :( العسرى ). والذي يدعو إلى هذا أن فعل ( نيسر ) نصبَ ضمير ) من أعطى واتقى وصدَّق (، وضمير ) من بَخل واستغنى وكذَّب، فهو تيسيرٌ ناشىء عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى اتَّقى ( أو معنى ) استغنى (، فالأعمال سابقة لا محالة. والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو