" صفحة رقم ٤٩٥ "
وإنما أعيد قوله :( ومن يعمل ( دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإِطناب.
وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي ( ﷺ ) بالجامعة الفاذة ففي ( الموطأ ) أن النبي ( ﷺ ) قال :( الخيلُ لثلاثة ) الحديث. فسُئل عن الحُمُر فقال : لم يُنْزَل عَليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة :( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ). وعن عبد الله بن مسعود أنه قال : هذه أحكم آية في القرآن، وقال الحسن : قَدِم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي ( ﷺ ) يستقرىء النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صَعصعة : حسبي فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها. وقال كعب الأحبار :( لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإِنجيل والزبور والصحف :( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
وإذ قد كان الكلام مسوقاً للترغيب والترهيب معاً أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويهاً بأهل الخير.
وفي الكشاف ( : يحكى أن أعرابياً أخَّر خيراً يَرَه فقيل قدّمت وأخَّرت فقال :
خُذا بطن هَرشَى أو قَفَاها فإنه
كلا جانبيْ هَرشَى لهن طريق ا ه
وقد غفل هذا الأعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير.
روى الواحدي عن مقاتل : أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما.
ومن أجل هذه الرواية قال جمع : إن السورة مدنية. ولو صحّ هذا الخبر لما كان مقتضياً أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهداً يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة.