" صفحة رقم ٥٧٧ "
ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل :( محمد أبتر ) إبطالاً لقوله ذلك، وكانَ عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإِبطال ضرباً من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهاً على أن الأحقَّ غيرُ ما عناه من كلامه كقوله تعالى :( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ( ( البقرة : ١٨٩ ). وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله. وهب أنه لم يولد له البتة، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصاً لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض، وقد لا يعرض أو لمحبة ذِكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي، والنبي ( ﷺ ) قد أغناه الله بالقناعة، وأعزّه بالتأييد، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه، فتمحض أن كماله الذاتي بما عَلِمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر في قوله :( هو الأبتر ( نفيُ وصف الأبتر عن النبي ( ﷺ ) لكن بمعنًى غير المعنى الذي عناه شانئه فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصراً في استعمال الضمير في غير معنى معاده، على ما حققه أستاذنا العلامة سالم أبو حاجب وجعله وجهاً في واو العطف من قوله تعالى :( وجاء ربك والملك ( ( الفجر : ٢٢ ) لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال : وجاء الملك وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى، قال : وقد سَبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في ( طراز المجالس ) في قول محمد الصالحي من شعراء الشام :
وحديثُ حُبّي ليسَ بالْ
مَنْسُوخ إلاّ في الدَّفاتر
والشانىء : المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه : الشنآن، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبيء ( ﷺ ) فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازاً به.


الصفحة التالية
Icon