" صفحة رقم ٢٣٥ "
من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة.
وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها. وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة، لأنّ الأموال في يد الأولياء، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة. وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم، وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري. وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين. وقارب ابن العرب إذ قال :( لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك ) وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن. وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم، وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة.
وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله :( التي جعل اللَّه لكم قياماً ( فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي، وإيضاحاً لمعنى الإضافة، فإنّ ( قيما ) مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال : مثل عِوذَ بمعنى عياذ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر، وقلّة فِعَل فيها، وقيم من غير الغالب. كذا قرأه نافع، وابن عامر :( قيما ) بوزن فِعَل، وقرأه الجمهور ( قياماً )، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً